لو قلنا عن الله تعالى: إنه لا يتكلم بالكلية، لاستوى في ذلك الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، والذين يعلمون الصالحات من الأَنْبِيَاء والصديقين.
ويدل عَلَى ذلك الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ وهي أحاديث كثيرة كما ذكر المُصنِّف هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان}.
ويقول لهذا المؤمن: ألم أعطك ألم أغفر لك؟ فيكلمه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حين يدنيه منه بكلام التكريم، وهذا يختلف عن الكلام الذي هو من جنس كلامه لأهل النَّار والعياذ بالله الذين لا يكلمهم، بمعنى: أنه لا يكلمهم كلام رضى، وإنما كلام إهانة وسخط ((اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)) [المؤمنون:108].
وقد ذكر الإمام البُخَارِيّ -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد من صحيحه ذكر عدة أبواب في بيان إثبات الكلام لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وقد ردَّ كذلك في كتاب الإيمان، وفي كتاب التوحيد، عَلَى أصناف المبتدعة والجهمية والزنادقة كما عنون لكتابه بذلك، فإنه رد عَلَى أصناف هَؤُلاءِ جميعاً بآيات وأحاديث صحيحة ثابتة، بمعانٍ عديدة مستنبطة، وتَعْجَب من دقته في الفهم، ومن دقته في الاستنباط، ومن ذلك أنه في مجال إثبات كلام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عقد باباً لكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأهل الجنة وباباً لقوله تعالى:
((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] وباباً لتكليم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة، وذكر في كل باب من هذه الأبواب أحاديث صحيحة.
منها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ {إذا تكلم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالكلام سمعته الملائكة كسلسلة عَلَى صفوان، فتضع الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله} ثُمَّ تختلف روايات الحديث فمنها، فيمر جبريل عَلَيْهِ السَّلام بأهل كل سماء فيفيقون فيقولون ماذا قال ربكم؟
قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وهذا الحديث هو تفسير لقوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سـبأ:23] فهذه الملائكة تصاب من وقع صوت كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها بالخضعان -الإغماء- حتى تفيق بعد ذلك ويكون أول من يفيق جبريل، ثُمَّ يمر عَلَى كل أهل سماء فيخبرهم بما يسألون؟ ماذا قال ربكم؟
فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير، حتى يمر إِلَى السماء الدنيا فيقول ذلك، فيسمعه الجن والشياطين الذين كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع.
ويذكر الإمام البُخَارِيّ -رحمه الله تعالى- أيضاً في باب كلام الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأهل الجنة حديث {إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أَدْخَلَ أهل الجنة الجنة يناديهم}، ومنها حديث آدم: {يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يا آدم يا آدم، فيقول لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إِلَى النار} هكذا الرواية، وكما هو معلوم أن البعث إِلَى النَّار بأن يخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلَى النار، وواحداً إِلَى الجنة، ولذلك لما جزع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك أخبرهم أن هَؤُلاءِ هم من قوم يأجوج ومأجوج نسأل الله العافية، وأن الأمة المحمدية ما هي في بقية الأمم إلا مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود.

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام البُخَارِيّ أيضاً في هذا الباب معلقاً {أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ينادي عباده يَوْمَ القِيَامَةِ بصوت يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ}، وفي ذلك دليل عَلَى أن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ يختلف عن كلام جميع المخلوقين، فقوله: {يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ} هذا خاص بكلامه جل شأنه {فيقول لهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنا: الملك أنا الديان} حتى يسمع ذلك كل من في المحشر فتكون العبرة العظة لنا في هذه الحياة الدنيا، ولكل من يتكبر ويتجبر عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فحينما يقول يَوْمَ القِيَامَةِ (لمن الملك اليوم)، فلا يجيب أحد من شدة الهول ومن كرب الموقف، فيجيب عَلَى نفسه، (لله الواحد القهار) نسأل الله أن يرحمنا.
ومما أورد الإمام البُخَارِيّ-رحمه الله تعالى- أيضاً في هذا الباب كلام الرب لجبريل في باب كلام الله مع الملائكة وأورد فيه الحديث الصحيح المعروف {إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا أحب عبداً، نادى جبريل، فَيَقُولُ: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه...} الحديث.
فهذا كلام من الله عز وجل يخاطب به جبريل، وجبريل يسمعه. وأورد أيضاً حديثاً آخر وهو حديث: {يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويصعدون إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيسألهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون} وهذا خطاب بين الله تَعَالَى وبين الملائكة، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي يخاطب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها خلقه، كما خاطب الملائكة لمّا خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام، وكما خاطب موسى عَلَيْهِ السَّلام، وكما يخاطب يَوْمَ القِيَامَةِ المؤمنين في الجنة ويخاطب الملائكة.
ومما ذكره الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً: خطاب الله تَعَالَى لأهل الجنة وهو: {إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا أدخل أهل الجنة الجنة يسألهم جل شأنه، فَيَقُولُ: يا أهل الجنة!
فيقولون: لبيك ربنا وسعديك.
فيقول لهم الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هل رضيتم؟
فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟
فَيَقُولُ: أفلا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك!
فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا رب؟
فيقول أن أرضى عليكم فلا أحل عليكم سخطي أبداً}
.
وهذا تفسير لقوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)) [التوبة:72] فرضوان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أكبر من كل نعيم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يجعلنا وإياكم من أهل رضوانه وجنته.

والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أشار هنا إِلَى عدة مواضع ذكرها البُخَارِيّ رحمه الله تعالى في صحيحه، وهي قوله باب كلام الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع أهل الجنة، وساق فيه عدة أحاديث قَالَ: [فأفضل نعيم لأهل الجنة هو رؤية وجهه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتكليمه لهم؛ فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] وهذا حق، وسوف نأتي -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مبحث إثبات الرؤية وهناك نأتي عَلَى هذه الأحاديث بالتفصيل.
ويتبين لنا أن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي أعظم نعيم في الجنة، وهي المزيد الذي يجعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [يونس:26] فرؤية وجه الله تَعَالَى زيادةٌ عَلَى الجنة، فهي أعظم النعيم، فمن أنكر كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأهل الجنة ورؤيتهم له فقد أنكر أعلى وأفضل نعيم في الجنة.
ولهذا قال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كيف يرجو من ينكر رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويرد الآيات والأحاديث في ذلك أن يراه، وقد كَانَ في الدنيا ينكر ذلك؟ وكيف يرجو أن يدخل جنته؟
وأعظم نعيم في هذه الجنة هي رؤيته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيزعم الإسلام والإيمان ويرجو أن يدخل الجنة وهو ينفي أعظم نعيم في الجنة جَاءَ التصريح به في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا عجيب في أمره.

والآن ننتقل إِلَى إحدى الشبهات في قولهم: إن القُرْآن مخلوق.